كثيرة تلك الأِخبار التي يمكن أن تندرج تحت مسميات مأسوية، كالفجيعة أو الفجائعية, لكن خبر اليوم أكبر من أن تحيط به تلك المسمّيات، خبر اليوم أحدث في نفس السيد محفوظ رجّة عميقة، نبشت معها أكوام الحزن المتراكم دفعة واحدة .. بدا ذلك في تعابير وجهه، و في حركات يديه، وهما تنقلان سماعة الهاتف من أذن إلى أخرى، تتوسّلان تكذيب الخبر..!
كان السيد محفوظ قد نهض من سريره على رنين جرس الهاتف المتواصل الذي أفاد أن صديقه حسن قد توفي, حاول نفي ما سمع بالعبارات المعهودة « غير معقول, ذلك مستحيل » لكن كلمات عبد المنان القريب من أسرة حسن، كانت واثقة، إذ لم تترك أي مجال للشك عندما رتبت النبأ على الآخر « موعد الدفن ومكانه، وكلّ تفاصيل مراسم الجنازة »
أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها, دار في الغرفة دورات عشوائية مضطربة, تمتم في سره:
"حسن وفؤاد وسليم.. فواز وأحمد وكمال.. حسين وأمجد وناظم..!" وتساءل:
"من تبقّى لك يا محفوظ..؟"
تنّهد بوضوح.. حمل فنجان القهوة الذي كان أعدّ على ضجيج الهاتف الصباحي, وخرج إلى ساحة الدار الترابية الواسعة, فتل كرسيه عن جهة حوض الزرع، على غير عادة, تفرّس في وجه الأرض، فانشقت تربتها الصفراء الباهتة عن وجه حسن..!
صور من الحياة المنتهية للتوّ تتالى فوق البقعة الصفراء، ( لقاءات واجتماعات, ندوات ومحاضرات, جدال وعراك، غوص في قضايا مبعثرة عن الوطن والأمة والناس, وعن الأحزاب والقوى والاتجاهات، عن البناء والإعمار, عن القيم والمثل، وعن الانكسارات والانتصارات...!) تأوّه محفوظ.. رشف من الفنجان قليلاً، وتمتم:
ملعونة تلك الخيبات, طحنت النفس، وأغلقت النوافذ على الروح، فجعلت القلب يخون قبل الأوان..!
ضرب السيد محفوظ الأرض بقدمه، وهمّ بمغادرة المكان، غير أنّ فوّاز، أطل هو الآخر بفعل التداعي ـ ربما ـ أو بفعل خيط الغمّ الذي أخذ هذا الصباح اللئيم يجرجره بتشف واضح.. جمد محفوظ في مكانه..!
فوّاز يتقدّم جمعاً من الشباب والشابات، يرفعون شارة المسرح, كأنما هم في مسيرة لا تنتهي..!
كهيئته دائماً، يبدو فوّاز حزيناً، جسده الناحل لا يكاد يقوى على المسير..! تمتم محفوظ:
" كنت الأسبق يا فواز، لم تستطع الاحتمال," "أتراك تعبت من التأمّل الدائم، أم من النظر في المخفيّ من الأمور، أم أنّها كثرة الأفكار وتراكم المشاريع."
" بل الصمت المقيت، وارتفاع الجدران، وكتامة السدود " ردّد فوّاز.. أو هكذا تناهى إلى السيّد محفوظ، فعاد يهمس:
"بينهما خيط على كلّ حال..!"
يلوّح فواز ببطء ثمّ يمضي مع صحبه..!
ينسلخ سليم عن المجموعة، أو لعلّ محفوظاً هو الذي استوقفه، توقّف سليم بقامته الطويلة المحنية قليلاً تحت ثقل كيسه الذي لا يفارقه..! يقع الكيس على الأرض، فتندلق محتوياته وتتناثر، صور وكتب وأثريات، "جلجامش، وأهل الكهف، والسفينة التي تحمل أزواجاً من كلّ ما هبّ ودبّ..!
" جمال الإنسان فيما يتركه من أثرٍ.." "الآثار تكمل لون الحياة وتعطيها معناها.." يلملم سليم أشياءه.. يبتسم.. يلوّح بيده ويمضي.. يتبعه فؤاد صامتاً.. يناديه محفوظ:
يلتفت فؤاد متجهماً، ينظر إلى ساعته، ثمّ يمضي دونما توقّف..!
"لم يخنه قلب ولم يداهمه مرض عضال, بيديه صنع مأساته.. نفّذ قراراً قديماً ورحل.. سنّ الثلاثين حدّ لمن لا يمنح الحياة شيئاً من روحه, لمن لا يصنع مجداً..! لم تنقصه الهمّة العالية، لكنّ المعيقات حجر من صوان مكين, والنبيذ اللذيذ لم يكن سوى مسكّن غدّار.. اختار وقته بعناية..!"
وجوه كثيرة تتتالى.. تنهض من جوف الأرض تلتحق بالمسيرة.. أحمد يحمل يداً مقطوعة الشرايين ويمضي مع الركب.. أحمد لم ير من حياته شيئاً، غادرها قبل النمو والاكتمال، أخذوا عليه حبه ابنة الجيران، أفهموه أنّ ذلك عيب وحرام، وأنها ليست له في نهاية المطاف..! أحمد حاكم المسألة بشفافية الشباب ونزقه.." ماداموا قد حكموا على حبّه بالموت، فلم البقاء إذاً..؟!"
اتخذ قراره ومضى.. بكت المدينة حينئذ، لكنه مضى..!
عبد الله ينسلخ عن الجمع، بيده سجادته، يستوقفه حامد، يسمعه نكتة تعيدهما إلى أيّام الفتونة، يضحكان ثمّ يتابعان سيرهما خلف الجماعة..!
وقف محفوظ، فنجان القهوة ما يزال في يده، تبتعد المسيرة كثيراً, تتوارى خلف الأفق البعيد.. يتأمّل محفوظ فنجان القهوة.. يرفعه إلى فمه.. ما في الفنجان قطرة واحدة.. ما فيه غير حثالة سوداء .. حثالة تنتظر من يلقي بها فوق النفايات, أو من يسيل عليها قليلاً من الماء لتذهب في المجرى العام..!
غرس أصابع يده في طين جبهته، أعاد ترتيب الأسماء والأصدقاء والأحباب.. لم يبق منهم أحد.. حاول أن يتذكر من تبقّى من أصدقاء السياسة أو الثقافة أو الوظيفة أو الحيّ أو الشلل المختلفة.. ما من أحد يخطر على البال الآن، قد يرى بعضهم في الجنازة، يا إلهي، لقد نسي موعد الجنازة كلّه, عليه أن يرتدي ثيابه ويمضي, تحرك خطوة، خطوتين, لكن لابد أن يتذكر بعضهم، واحداً على الأقل، دار حول نفسه دورات متتالية, يده ما تزال على رأسه, عيناه في التربة الصفراء الباهتة, لسانه يلوك بتثاقل العبارة الجافة، من تبقى يا محفوظ..؟ من تبقى.. من يا محفوظ..من؟!.
يعود الجمع، المظاهرة، في مقدمتها فواز وسليم وفؤاد والآخرون جميعاً، ينضم إليهم حسن، يشكّل معهم نسقاً طويلاً، يأخذ في الانحناء التدريجي، يصير النسق قوساً، يتنادى طرفاه، يلتئمان حول السيد محفوظ الذي ما يزال في مكانه، يبحث عمّن تبقى..!
الذاكرة تراوغ، ينقّل بصره بين الوجوه الباسمة، العابسة، المتأملة، ترتفع أذرع الجمع قليلاً، تقترب الأكف من بعضها، تأخذ في تصفيق رتيب هادئ.. أهي حفلة عرس؟ كيف تتحوّل الجنازة إلى عرس؟! يتساءل السيد محفوظ، تختلط الأمور عليه..! ينظر في ساعته، أزف الموعد، يحاول الخروج، فيعلو التصفيق، ويتسارع الإيقاع..! يعود إلى التساؤل والدوران:
من تبقى يا محفوظ..؟! يرفع الفنجان من جديد، ما في الفنجان غير حثالة جافة سوداء.. حثالة تنتظر من يلقي بها في النفايات، أو يصبّ عليها قليلاً من الماء لتسيل في المجرى العام..!
الثلاثاء يونيو 03, 2008 1:15 pm
