STRA ARAB
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

STRA ARAB

مرحبا بكم في المنتدى
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 (()ألوان())

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
مدير المنتدى
مدير المنتدى
Admin


ذكر
عدد الرسائل : 323
العمر : 35
الوضيفة : طالب
تاريخ التسجيل : 19/03/2008

(()ألوان()) Empty
مُساهمةموضوع: (()ألوان())   (()ألوان()) Emptyالثلاثاء يونيو 03, 2008 1:15 pm

أنا لا أذكر شيئاً عن الحالة التي أخرجت بها من سواد العتمة إلى بياض النور، ولا أعرف بالتحديد عمّا إذا كان ذلك الانتقال طبيعياً، أم أنّ ظروفاً محددة قد فرضته، ما أعرفه أنّ أحداً لم يتمكن من تهيئة مرشد أو دليل يأخذ بيدي..! الأمر الوحيد الذي لا يغيب عن ذهني أبداً، هو أنّني قد خرجت مع والدي في نزهة أو سفر، وأنّه قد استوقفني لدى وصولنا إلى أحد أبواب الحديقة الكبيرة، وقال:‏

تعرف يا ابني، يا سليم، أنّ أمّك قد ماتت منذ ولدتك، وأنني اضطررت للزواج، فالرجال، كما سوف تعرف، لا يقدرون على الحياة بدون زوجات، ولكنّ الزوجات، غير الأمهات، لا يحسنّ تربية الأولاد، وأنا، في الحقيقة، خائف عليك من خالتك التي هي الآن زوجة، وليست أماً، وهي بطبعها امرأة قاسية، ليس في قلبها رحمة الأم وحنانها، وها أنت ذا قد كبرت، وأنا أثق بك وبقدرتك على متابعة دربك، فأنت، في هذا البياض، لست قادراً على الرؤية فقط، بل على التمييز بين مختلف الألوان.‏

ولسبب لا أعرفه، زرف والدي بعضاً من دموعه، ثمّ مسحها بيديه الخشنتين، ومضى مسرعاً..!‏

في ذلك الوقت لم يخطر ببالي أن أودّع أبي، ولم أنظر إلى الجهة التي ذهب إليها، حتى أنني لم أبك، كما يفعل الأطفال عادة، كذلك لم أشعر بأيّ خوف أبداً، ولعلّ المفاجأة التي وقعت فوق رأسي، قد امتصت كلّ أنواع الضعف..!‏

الذي شغلني حقاً هو حالي وما سأصير إليه.. وقفت لفترة أنظر إلى الحديقة، ولأنني كنت أجهل دواخلها وخفاياها، تسمّرت في عتبتها مأخوذاً بالألوان الجديدة التي تراها عيني لأول مرة.‏

لا أعرف كم مكثت أفكّر وأتأمل.. إذ لم أصح إلا على صوت رسول " الأخضر" الذي جاءني يرحّب بي ويدعوني للتعرِّف على صاحبه، وقد وصفه بالقدم والأصالة وكرامة النسب، وقد قال:‏

إنّ جذور الأخضر ضاربة في أعماق الدنيا كلِّها، وإنّ لونه الطاغي يجلل الأرض والشجر، وإنّ الجميع يعيشون بفضل خيراته وعطاءاته، وقد أسرّ لي في نوع من الفخر والمباهاة، بأنّ انتشاره الواسع ليس عن عبث، بل هو نتيجة طبيعية لتفاعله وتواصله مع النجم الكبير الذي يسكن الأعالي البعيدة. ثمّ أبدى دهشة عظيمة حين رآني هكذا بلا لون..! وعرض عليّ أن يمنحني لونه إذا ما قبلت الاندماج فيه.‏

شربت كأساً من منقوع الزهور عند الأخضر، وأمعنت فيما قاله من كلام هو الأقرب إلى الرموز والإشارات، وإلى ما قاله رسوله أيضاً، لكنني لم أهتد، خلال فترة الضيافة تلك، إلى قرار محدد. ولأسباب لم أر فائدة من الإفصاح عنها، رغبت عن الإقامة الطويلة عنده، فاعتذرت بلطف، وتابعت طريقي في عمق الحديقة.‏

لم أكد أبتعد مسافة، حتى اعترضني مندوب الأحمر بردائه اللامع المثير، وجلبة شغله، وضجيج أدواته التي يحملها مثل رايات على كتفه، فانجذبت إليه، ويبدو أنني تأثرت بالطريقة غير المتكلفة في الترحيب بي والتخاطب معي.. كانت كلماته جديدة تجمع ما بين وهج النار، وسلاسة الماء، فدخلت إلى قلبي دون تكلّف، وفتحت في رأسي نوافذ تفسح في المجال لرؤية الأماكن البعيدة جداً.. وقد صارحني وهو يكشف عن جوهر الأحمر ومزاياه المختلفة فقال:‏

إنّ مشابهته للدم ليست من جهة اللون فقط، بل من جهة قدرته على بعث الحركة والنشاط في الكائنات كلّها دونما استثناء، وبخاصة العاقلة منها، وأظنّ أنّه قد عنى بذلك الإنسان الذي من مهامه إعمار الأرض وإنماؤها..!‏

وقد أكد كما الأخضر تماماً أهمية أن يكون لي لون معين، وغمز من قناة الأخضر يقول:‏

لا تغرّنك مظاهر الانتشار الواسع لدى بعضهم، فليس ذلك دليلاً على القدرة أو قوة التأثير..!‏

أنست بالأحمر، وسرحت في عوالمه، لكنّ نزعة الفضول ورغبة الاكتشاف دفعتاني للاعتذار ومتابعة التجوال..!‏

كان الأزرق يغطي فضاء الحديقة كلّه، فيضفي على الحديقة، من هدوئه وصفائه، ما ترتاح إليه النفس وتطمئن.‏

وقفت أتأمله، فابتسم لي، ودعاني إلى فنجان قهوة. وحين أخذنا الخدر اللطيف مع رشفات رحيق البنّ همس لي:‏

في رحابي تستطيع أن تطوي صفحات الهموم والأحزان، هنا يمكنك تأمل عالم الحديقة بذهن رائق وروح شفافة، بعدئذ، يمكنك إن أردت، أن تختار بنفسك اللون الذي تريد..‍!‏

أخذت راحتي لبعض الوقت، كانت جلسة ممتعة حقاً، لم أكن لأرغب عنها، لولا أن ظلاماً كثيفاً قد ملأ المكان على نحو مفاجئ.. فحجب الأشياء والألوان عن عيني.. انتابني نوع من الخوف، ضاق صدري واغتم، كدت أختنق.. لولا أنّ صوتاً قوياً تردد صداه في الجهات كافة، صوت خاطبني بكثير من القوة والحزم:‏

ها هنا خيمة الأسود، أنت الآن في ضيافته، وتابع الصوت:‏

لا تخش شيئاً ولا تأبه لأحد.. إنه الأسود قاهر الجميع، يستوعبهم، يمتص نزواتهم، في صدره تختبئ الأسرار، وفي أعماقه تتبلور المعاني والأفكار، وعلى جبهته ترتسم معالم المهابة والوقار..!‏

تبدد خوفي للحظات، بيد أني لم أقو على احتمال القتام والعتمة، حرّكتُ يدي تعبيراً عن التذمر والضيق.. فانفرج باب الخيمة عن بياض متهلل، هُرعت نحوه، تنفست بعمق، أمنت لابتسامته المشرقة ولحديثه الودود:‏

« هنا الهدوء والأمن، وعلى هذا البياض النقي يفرش المبدعون آمالهم وأحلامهم، هنا على هذا النقاء يعيدون تشكيل التفاصيل المختلفة لعوالم دنياهم..! »‏

استمتعت كثيراً لدى الأبيض، وودت البقاء عنده، لكن العطب السريع أفزعني.. وخشيت تأثير الألوان الأخرى.. فمضيت.‏

كان الأصفر على بعد أمتار يتماوج شلالاً من ذهب خالص، حييته مأخوذاً بسحر بهائه، ومهابة جلاله.. ابتسم لي هو الآخر، ودعاني لزيارته، لكنني لم أرغب أن أضع نفسي في مجال المنافسة أو الحسد، فمضيت إلى ما تبقى من معالم الحديقة.‏

كانت ثمة ألوان كثيرة.. شاهدت البني والبرتقالي، البنفسجي والرمادي، الزهري والخمري، الفستقي والزيتي.. وألواناً أخرى لا عدّ لها.. ألواناً تتقارب وتتجاور، تتباعد وتتنافر، وكلّ، من الموقع الذي هو فيه، يعطي الحديقة بعضاً من جماله الخاص..!‏

جلست في الفراغ طويلاً، أمعنت كثيراً فيما رأيت، بحثت عن اللون الذي يناسبني.. فأعياني التفكير، وأعجزني الاختيار، بل ساءني أن أكتفي بلون واحد.. نظرت إلى نفسي فوجدتها قد أنست بالألوان كلّها، بل امتزجت بها وتآلفت معها، حتى غدوت لمن ينظر إليّ لوناً آخر جديداً.. صحيح أنّ الأحمر قد ازورّ عني تعالياً وتكبراً، وأنّ الأخضر عدّني بدعة تمهيداً لإخراجي من الحديقة كلّها..! وأنّ ألواناً أخرى احتارت في حال أمري، فأعطت أحكاماً كثيرة متباينة..!‏

لكنّ أرباب الحديقة كلّهم نهضوا فرحين للقيام بواجباتهم نحوي، فما إن تحسسوا قراري، حتى رأيتهم يسارعون للإعلان عن احتفال خاص لمناسبة ميلاد لون جديد يضاف إلى ألوان الحديقة الأخرى..!‏

خطرت ببالي دعوة أهلي وأصدقائي، فتذكرت أنّ أمّي قد ماتت، كما أشار إلى ذلك والدي حين تركني على الرصيف بعد أن جفف بكاءه بيديه الخشنتين، وأنّ الوصول إلى الوالد، الآن، يكاد يكون مستحيلاً، فقد مرّ زمن طويل نسيت معه معالم البيت الذي لم أعش فيه سوى تلك الفترة المعتمة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.star-arab2.yoo7.com
 
(()ألوان())
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
STRA ARAB :: ادب و شعر :: قصص و روايات-
انتقل الى: